

قد يبدو الوصف غريبا من أول وهلة وغير مستساغ، وذلك إذا ما تناولنا موضوع الرياضة عموما وموضوع كرة القدم على وجه الخصوص، من باب المتعة والترفيه والترويح عن النفس، لكن وجه الغرابة ينتفي إذا ما تغيرت زاوية الرؤية للموضوع وتبدل موقع التعاطي مع المسألة وتزحزح إلى باب الاقتصاد وميزان الربح والفوائد.
ذلك أن نشاط كرة القدم قد عرف تغيرات هيكلية عميقة وتأثيرات سوسيو-اقتصادية رهيبة، حيث صارت أجور اللاعبين وحقوق البث التلفزي وعوائد الإشهار وأسعار التذاكر ومبيعات الإعلانات التجارية وايرادات “الإعلام الكروي”.. تشكل في مجملها كتلة مالية ثقيلة جدا تفوق وزن الكثير من القطاعات الصناعية الأخرى، ولذلك صار من المنصف بلغة المال والأعمال دعوتها صراحة بـ؛ صناعة كرة القدم.
لقد طغى جنون التنافس بين القنوات الرياضية التجارية على المشهد العام، وصار البث المباشر والصورة الحية واللقطة المعادة بمختلف الأبعاد، والتحاليل الآنية من قبل “عظماء” اللعبة.. كلها صارت أوراقا رابحة لاستمالة أكبر عدد ممكن من المشاهدين، أو بالأحرى المشتركين أو المستهلكين بوصف تجاري أدق. فعندما يحصي ناد كـ”مانشستر يونايتد” ما يقارب نصف مليار متابع من سكان العالم، فإن ذلك يعني ضمان سوق تنافسية بملايير الدولارات. وعندما تتجاوز ثروات الأندية الأغلى في العالم تنازليا؛ مانشيستر يونايتد، ريال مدريد، أرسونال، برشلونة وبيارن ميونيخ، سقف السبعة ملايير دولار، فإن حربا تنافسية بين أثرياء العالم تكون قد اندلعت على مستوى الأسواق المالية الكبرى، لشراء ما أتيح من أسهم وحصص “رسمالية” تمنح الأفضلية لهذا أو ذاك في الحصول على أكبر قدر ممكن من العوائد والأرباح.
ولنقف بصورة أقرب من مشهد البيع والشراء والربح والفوائد في عالم الكرة، يمكننا العودة إلى الحدث الكروي الأهم الذي عاشه العالم هذا العام، ألا وهو مونديال روسيا 2018.. فقد أطفئت الاضواء وختم العرض وعاد كل من حيث أتى، ليكتب التاريخ على دفة الختام عنوانا واحدا لا يسع إلا اثنين وبالبنط العريض: المنظم روسيا والبطل فرنسا، وقد يذيل بعبارة ساحرة من ذهب؛ فخر الضيافة للدببة ومجد النصر للديكة.. وأما النسور والصقور والفيلة والشياطين والثعالب والخراف ووو… وبقية الألقاب والأوصاف، فلن يكون لها ذكر بعد اليوم إلا على سبيل الأنس والاستئناس ليس إلا.
نجحت روسيا إذا، في رفع التحدي، حسب رأي الخبراء الذين أجمعوا على أن تنظيم دورة كأس العالم عاد بالنفع العميم على روسيا وعلى اقتصادها الذي جني أرباحا كبيرة ومنافع لم تكن في الحسبان، فقد قدر العائد الاقتصادي للبطولة بـنحو 1.6 تريليون روبل، وهو الرقم الذي يتجاوز سقف الأموال المستثمرة خصيصا لتنظيم هذه الدورة بنحو 2.5 مرة، وبذلك تكون بطولة كأس العالم روسيا هي الأغلى في التاريخ من حيث حجم الإنفاق لتحضير الدورة، والتي تجاوزت ثلاثة أضعاف ما أنفقته جنوب إفريقيا.
التحضيرات لكأس العالم جعلت روسيا تقوم ببناء وتجديد 12 ملعبا في 11 مدينة روسية، كما تم تحديث البنية التحتية للنقل، بما في ذلك المطارات والطرق والسكك الحديدية، وتم بناء 27 فندقا جديدا في المدن الروسية التي ستستضيف مباريات البطولة. اذ بلغت تكاليف البطولة ما يقارب 680 مليار روبل (حوالي 13.2 مليار دولار)، منها 390 مليار روبل خصصت من الميزانية الاتحادية، ونحو 92 مليار روبل من ميزانيات الأقاليم الروسية، فيما انفق مستثمرون من القطاع الخاص 196 مليار روبل. ويقول خبير الاقتصاد والأستاذ في كلية العلوم الاقتصادية “يفغيني يتاكوف”: إن الأموال الموظفة في تنظيم البطولة عادت على اقتصاد البلاد بتأثير مضاعف؛ فقد تجاوزت عائدات بيع تذاكر المباريات والتي فاق عددها 3.1 مليون تذكرة، مستوى خمسة مليارات دولار، كما أنفق المشجعون الأجانب على السكن والطعام نحو 5 مليارات دولار، وأما منتجو وبائعو الهدايا التذكارية فقد جنوا من انفاق 1.5 مليون سائح أجنبي زاروا روسيا قرابة 1.5 مليار دولار، أي بمعدل 100 دولار للشخص.

فيما تؤكد الخبيرة في مجال السياحة “غالينا ديختيار” أن السائح الأجنبي الواحد الذي زار روسيا خلال البطولة ساهم في خلق 5 فرص عمل في قطاع الفنادق والمطاعم. كما تم تسجيل عوائد في القطاع السياحي عموما تجاوزت 4.5 روبل لكل 1 روبل تم انفاقه.
وعلاوة على ذلك، فقد تغيرت صورة روسيا في نظر العالم، وذلك بابرازها قدرات خارقة في التحكم بكل التفاصيل الأمنية والتأمينية طوال أطوار العرس العالمي؛ من استقبال الوفود المشاركة والجماهير الوافدة وتوفيرها كل وسائل الراحة وأسباب الضيافة، إلى الحفاظ على سلامة الافراد والجموع على كثرتها في حلها وارتحالها من مدينة إلى أخرى عبر إقليم الدولة المترامي الأطراف.. وبذلك تكون قد أثبتت للعالم أنها بلد متطور جدا، وأنها لا تتقن فنون الحرب والردع فقط، وإنما تتحكم جيدا بفنون العيش وتفاصيل الحياة، كل ذلك جاء بفضل كرة القدم التي فتحت باب التحول لروسيا على مصراعيه.
روسيا، وبعد هذا النجاح الباهر، هي الآن عاكفة على ضبط موازناتها قبل قفل حساباتها مع نهاية العام، وذلك باحصاء الفوائد وعد المكاسب، حتى تكتمل الفرحة بشقيها؛ المادي والمعنوي، إذ لا معنى لكل تلك البهرجة والألوان من دون أن تتوج خزينة البلد بالعوائد والأموال.
روسيا التي لا تزال تتحمل وزر الحقبة الشيوعية وإرث الاتحاد السوفياتي، استطاعت وبدهاء كبير أن تفكك الشراك التي حبكت ضدها بليل، هنا وهناك عبر عواصم “المعسكر الغربي”، وذلك من أجل ابتزازها وثنيها عن الالتزام بمواقفها الاستراتيجية حيال الملفات الثقيلة والنقاط الساخنة؛ من حصار إيران وحرب سورية، إلى انقلاب أوكرانيا وأزمة القرم.. إلى درجة تهديدها من قبل بريطانيا بمقاطعة الدورة وافشال المهرجان الكروي العالمي، بعدما فشلت مساعي لندن وواشنطن وباريس في سحب ورقة تنظيم الطبعة الحادية والعشرين من موسكو، تحت طائل اتهام هذه الأخيرة بدفع رشاوى ومنح عمولات لبعض الاتحادات من اجل التصويت لصالحها. المهم بالنهاية أن موسكو قد حققت حلمها بتنظيم الدورة وانجاح فعالياتها، وأن بوتين قد حقق نصرا مؤزرا على خصوم الداخل وأعداء الخارج وهو العائد إلى قصر الرئاسة تحت وابل من الانتقادات والتحفظات الغربية.
على الضفة الأخرى تقف فرنسا، التي يحفظ لها التاريخ مواقف ومناقب في اللعبة لا تستتر، فقد وجدت نفسها على موعد هي الأخرى مع الافراح والليالي الملاح، نشوة ونخوة وافتخارا.. كيف لا، وهي الآن فوق سقف العالم رفقة كبار اللعبة وسادة الميادين إعجازا وانجازا. فمنذ العام 1930م، حيث أُقيمت أول بطولة عالمية لكرة القدم تحت مُسمى؛ كأس العالم للأمم، والتي استضافتها الأوروغواي آنذاك، لم تتخلف فرنسا عن الحلم بالفوز باللقب، إلى أن تحقق لها ذلك للمرة الأولى منذ عشرين عاما، وليتعزز بثانية هذا العام في ظروف مغايرة وبمعطيات مختلفة، طغت عليها صورة المنتخب الفرنسي متعدد الجنسيات، إذ حطم الرقم القياسي من حيث عدد أصول اللاعبين المدافعين عن الألوان الفرنسية والفائزين بالكأس.
ورغم ما يقال عن فرنسا الجرائم والاستعمار، فإنه لا يمكن وبأي حال، نكران العمل الجبار الذي تقوم به الهيئات الرياضية والأجهزة الفنية الفرنسية، ليس في تكوين وتأهيل الرياضيين من الطراز العالي فحسب، وإنما كذلك في منح الفرص وتوفير كل وسائل الارتقاء والنجاح. فهؤلاء اللاعبون الكبار الذين أنجبتهم فرنسا “رياضيا”، وصنعت منهم شيئا كبيرا، ما كان لهم أن يكونوا لو أنهم تشبثوا بانتماءاتهم البيولوجية ذات البيئات المتخلفة الفقيرة، ولكان أفضلهم اليوم يحلم باجتياز الدور الأول أو الفوز على البرازلة أو الالمان.
وعلى ضوء نتائج الدورة جاء تصنيف المنتخبات العالمية بحسب القيمة المالية لكل منها، على ضوء ما توصل إليه موقع “ترانسفير ماركت” العالمي المتخصص في القيم التسويقية للاعبين عبر كافة أنحاء العالم.
كما نشرت صحيفة “ماركا” الإسبانية إحصائية تضم قيمة عشرة منتخبات مشاركة في كأس العالم 2018، جاء على رأسها منتخب السامبا البرازيلية الذي يعد أغلى منتخب في المونديال، إذ وصلت قيمة لاعبيه إلى 673 مليون يورو بحيث قدر متوسط قيمة كل لاعب 29.9 مليون يورو، وحل منتخب ألمانيا ثانياً بـ 636.5 مليون يورو بمتوسط بلغ 26.5 مليون يورو لكل لاعب وهي ذات قيمة المنتخب الفرنسي أيضاً، فيما وصلت قيمة المنتخب الإسباني لـ 603.5 ملايين يورو بمتوسط 25.2 مليوناً، وحلت الأرجنتين في المركز الخامس ووصلت قيمة لاعبي التانغو بقيادة ميسي إلى 528.5 مليون يورو بمتوسط قدر بـ 20.3 مليوناً.
من روسيا إلى الجزائر، ومن المان يونايتد إلى الوفاق الرياضي السطايفي، تتأرجح الفوارق وتنحدر القيم وموازين التقييم، ولكن حتى وإن غابت المعايير والمقاييس التي على أساسها يتم تقدير قيمة كل فريق في البطولة الجزائرية، فإنه يمكن ترتيب النوادي بحسب قيمة ما يملك كل منها من لاعبين على ضوء سوق الانتقالات الموسمية وما يسرب أثناءها أو بعدها من أرقام وأرصدة ومبالغ مالية، ليجمع المختصون المحليون على أن وفاق سطيف يحل ثالثا بعد اتحاد العاصمة ثم مولودية الجزائر.
وفاق سطيف ثالث أغلى فريق محلي من حيث قيمة ما يضم من لاعبين، لكنه يعد أول الفرق والنوادي الجزائرية من حيث الألقاب والسمعة والصدى على المستوى الوطني، الإقليمي والقاري، وحتى العالمي على اعتباره أول فريق جزائري يحوز لقب “العالمي” بتمثيله القارة الإفريقية في كأس العالم للأندية العام 2015م.
وعليه، فقد أصبح الوفاق يشكل كتلة اقتصادية جد مهمة، لدرجة أن الكثير من المستوردين والتجار صاروا يتحينون فرص ارتفاع أسهم الفرق لدي أنصاره ليقوموا بعمليات استيراد وتسويق لمنتجات تحمل اسم وشعار وألوان الوفاق، ناهيك عن الحراك التجاري والنشاط الإجتماعي الذي تعيشه المدينة عشية كل استحقاق رياضي كبير يخوضه النسر الأسود، محليا إقليميا أو قاريا.
لقد بات من الضروري المستعجل استغلال اسم الوفاق وشعاره اقتصاديا واجتماعيا، على غرار ما يحدث مع أكبر النوادي العالمية، وذلك من أجل خلق فرص إضافية لتمويل النادي ومنحه قدرة أكبر للتنافس على الظفر بخدمات أمهر اللاعبين، ما يمنحه إمكانية التنافس الدائم على الألقاب وعلى كل الجبهات، الشيء الذي يضمن له من ناحية أخرى الأفضلية المطلقة للاستحواذ على أسهم أكثر في سوق الإشهار التمويلي والتسويق الرياضي والعقود الإعلانية المختلفة عبر شبكات الإعلام المحلية والإقليمية، ومن ثم جذب المتعاملين الإقتصاديين للانخراط في مشاريع استثمارية تعود بالنفع العميم، ليس على النادي فحسب، وإنما على جميع الشركاء بما فيهم الجماهير وصغار التجار وأصحاب الحرف ونشطاء الفرص التجارية العابرة والمؤقتة، وكذا خلق ديناميكية تضامنية على مستوى الجمعيات الأهلية والاجتماعية.
لقد تحول الوفاق فعلا من ظاهرة كروية محصورة الأثر بين الملعب والمناصر، إلى ظاهرة إجتماعية قائمة بذاتها خارج الأسوار والهتاف، زادها بريقا تلك الخرجات التضامنية لأسرة الفريق في سعيها الدؤوب لدعم الشرائح الهشة من ضعفاء المجتمع ومحتاجيه ومرضى المستشفيات ويتامى المراكز الطفولية.. وغيرها، وهي الصورة التي ضاعفت من وزن النادي أخلاقيا واجتماعيا وإنسانيا.. ليتحول اسم الفريق وشعاره وألوانه إلى علامة تجارية من ذهب، تحتاج فقط إلى استراتيجية علمية عملية لاستغلال وتثمين آثارها المادية، بهدف الرفع من الايرادات المالية وخلق فرص عمل جديدة ومضمونة، خلقا للثروة وتطويرا للنشاط الاقتصادي وتنويعه بصورة أوسع وأشمل، ليعود بالربح والمنفعة على عموم المجتمع.